تكتب سجود عويس عن واقع لا يبدأ بالقنابل ولا ينتهي بها. تصف كيف يحمل كل بيت فلسطيني، في مكان مخفي بعناية، كيساً صغيراً يضم أوراقاً وصوراً ووثائق: جوازات سفر، شهادات دراسية، عقود زواج، وأوراق ميراث. يوثّق هذا الأرشيف المنزلي تاريخ الأسرة، ويحمي صلتها بالماضي وحقها في المستقبل. ومع التحول الرقمي، انتقلت هذه الذكريات والملفات إلى الهواتف وأجهزة الحاسوب، لكن الحداثة لم تشفع لها أمام حرب تريد محو كل شيء.

 

يشير موقع ميدل إيست آي إلى أن التدمير الذي تطلقه إسرائيل في غزة لا يقتصر على البيوت والبنية التحتية، بل يمتد إلى الأرشيفين الشخصي والجماعي للشعب الفلسطيني، المادي والرقمي، الثقافي والعلمي والاجتماعي. ينهار بذلك وجود قانوني وتاريخي كامل، وتُجرّد جماعة بأكملها من أدلتها على أنها كانت هنا، وعاشت هنا، ولها اسم وهوية وجذور.

 

محو الذاكرة تحت الركام

 

تشرّد القصف المتواصل منذ السابع من أكتوبر 2023 مئات الآلاف من العائلات، ويدفعها إلى الهجرة من مكان إلى آخر، في كل مرة تترك خلفها صور العائلة، وشهادات الميلاد، وسجلات الملكية، والدفاتر المدرسية، وأجهزة تخزن سنوات من الذكريات. يدفن الركام الهواتف وأجهزة الكمبيوتر المحمولة كما يدفن الأجساد، وتتآكل ملفات الهوية والذاكرة معاً.

 

يتجاوز الضرر فقدان الممتلكات مقتنيات شخصية، ليصل إلى جوهر الوجود الإنساني. تُمزق الصلة بين الفرد وتاريخه، بين الطفل وصوره الأولى، وبين العائلة وميدالياتها وذكرياتها. يتحول النسيان إلى امتداد للموت، وتجري عملية قتل للهوية الثقافية والاجتماعية جنباً إلى جنب مع قتل الأجساد.

 

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى فقدان نحو نصف سكان غزة لوثائقهم الثبوتية. ينهار نظام السجلات المدنية، وتعجز المؤسسات عن تسجيل المواليد والوفيات، وتغيب البيانات التي تثبت من وُلد ومن رحل. يخلق هذا الفراغ جيلاً مهدداً بالتحول إلى وجود غير معترف به قانونياً.

 

تدمير المعرفة والمؤسسات

 

ينسف القصف الجامعات ومراكز البحث، ويقتل عشرات الأساتذة والباحثين، ويفجّر المختبرات والمكتبات التي تحتضن سنوات من العمل الأكاديمي. تتعثر مسيرة أكثر من نصف مليون طالب، وتضيع بياناتهم العلمية وأبحاثهم وسجلاتهم الدراسية، ما يحرمهم من فرص التعليم والمنح والمستقبل المهني.

 

تستهدف كذلك المؤسسات الثقافية والفنية والتاريخية من متاحف ومكتبات ودور أرشيف. تختفي آلاف الكتب والمخطوطات التي يعود بعضها إلى العهد العثماني، وتنهار مجموعات نادرة من العملات والمشغولات القديمة والوثائق الحكومية المبكرة. يختفي بذلك خزان معرفي لا يمكن تعويضه، وتُمحى قرون من السرد التاريخي الفلسطيني بضربة صاروخ.

 

تعرّف القوانين الدولية هذا النوع من التدمير كجريمة حرب لأنه يستهدف ذاكرة شعب وهويته. ولا يأتي هذا السلوك منفصلاً عن التاريخ، بل يتسق مع سلسلة ممتدة من نهب وتدمير التراث الفلسطيني، منذ مصادرة آلاف الكتب عام 1948 وصولاً إلى الاستيلاء على أرشيفات فلسطينية في مراحل لاحقة، وصولاً إلى الحملة الحالية ذات الطابع الشامل.

 

خنق الرواية في الفضاء الرقمي

 

يترافق التدمير المادي مع حملة رقمية واسعة. تدمر الضربات الخوادم الإلكترونية والمراكز الحكومية وقواعد البيانات التي تحفظ السجلات الرسمية، ما يهدد بانهيار الذاكرة المؤسسية بالكامل. يصبح المواطن عاجزاً عن إثبات هويته أو ملكيته أو حقوقه القانونية، ويفتح الغياب المجال للفوضى والفساد وحكم النفوذ بدل حكم القانون.

 

يمتد الخطر إلى منصات التواصل والتكنولوجيا الحديثة التي تحذف المحتوى الداعم لفلسطين، وتعطّل الحسابات، وتخفي المنشورات، وتقيّد الوصول، حتى عندما تكون المواد توثيقية أو سلمية. تشير تقارير حقوقية إلى استخدام خوارزميات وذكاء اصطناعي لقمع الرواية الفلسطينية وحجب صور الواقع، لا داخل فلسطين فحسب، بل في العالم كله.

 

تصبح المعركة هنا معركة على الذاكرة والوجود في آن واحد. لا يواجه الفلسطيني خطر فقدان الأرض فقط، بل خطر فقدان القدرة على رواية حكايته للأجيال القادمة. ومع ذلك، لا تنطفئ الحكاية تماماً. يحمل كل فلسطيني في داخله مخزوناً من القصص التي لا تصل إليها القنابل ولا تحذفها الخوارزميات.

 

يتجاوز هذا المخزون حدود الورق والشاشات، ويتحول إلى فعل مقاومة في حد ذاته. تستمر الذاكرة حية في الصدور، وتبقى الرواية عصيّة على المحو، مهما اتسعت ساحة التدمير المادي والرقمي. هكذا، وسط الركام والظلال، يصرّ الفلسطيني على أن المستقبل لا يزال قابلاً للكتابة، وأن الظلام، مهما طال، لا يملك الكلمة الأخيرة.

 

https://www.middleeasteye.net/opinion/how-israel-genocide-gaza-extends-digital-annihilation